رحلة ذكريات
لم يبقَ أمامها إلا أن تحمل الحقيبة و تدخل الكنيسة .إنها المرّة الأولى التي تدخل هذه الأبواب . أحسّت بقشعريرة تتغلغل في عروقها و تسري في خلايا جسدها المشوّه. غطت رأسها بمنديل ، و حاولت أيضا أن تشدّ به حول ما تبقّى من ملامح لوجهها .أكان الخجل يضرب بسياطه ؟ و هي التي استطاعت أن ترمي بُرقع جسدها بكل بساطة فوق أي سرير؟.هي عابرة أزقة و أسرّة .
وقفت عند الباب و تساءلت : هل يلاحظني احد؟و راحت تتأمل المسامير المدقوقة في الباب العتيق.شعرت و كأن كل مسمار قد خرق جسدها . أحست بالألم يتدحرج في حلقها . حاولت أن تبصقه فلم تستطع.ألم طعمه مرير ،يجرّ أثقاله ليحط رحاله فوق صدرها ، فيربض جاثما .فهو شبح رافقها منذ اليوم الأول الذي رأت فيه النور.
الأضواء الساطعة بهرت عينيها ، هي لم تعتد هذا الكم الهائل من النور . أحست و كأنها ستفقد بصرها ، هي أبقت تلك العينين اللوزيتين في العتمة ثماني و عشرين سنة، كيف لها أن تنظر هذا النور الآن؟
الضوء! تخاف الضوء و كل أشعته و كل ما يصحبه من صور .النور! لم َ يحاول الآن أن ينبش في ذاكرتها بل ينهش في عظامها ؟.هي لا تريد كل ما يومض و لا تريد ما تركته خلف تلك الأبواب. و الضوء ... يجرّها إلى العمق إلى أبعد ما يمكن أن تتصوّر.
تضع يدها أمام عينيها و تختلس النظر من بين أصابعها . ترى عند الزاوية اليمنى للكنيسة طفلا في العاشرة من عمره راكعا أمام صليب و يتمتم كلمات.
تحاول أن تمعن الإصغاء علّها تحفظ بعضا منها فتردّدها . كم هو صعب أن تخونك الذاكرة و هي الأكثر التصاقا بك، و عالم النسيان يترنح بفخر في الوقت الذي تريده ألا يظهر فيه .
الصلاة هذا كل ما تريده. لا تعلم بما تبدأ و ما نوع الكلام و ما حجمه.و هل للكلام من حجم و شكل؟ و كيف لها أن تتذكر ما لقنتها إياه جدتها و هي بنت الست سنوات؟.لو أنها تستطيع أن تسمع هذه" الكلمات".
تقترب أكثر و بخطى متثاقلة نحو ذلك الطفل . في صدر الكنيسة صليب معلق بحبل ممدود من السقف.يلفتها خشبه . فتقف و تتأمل لونه.خشب معتّق متآكل في بعض أطرافه و في كل الزوايا الأربع مسمار من فولاذ. سألت نفسها لمَ كل هذا العذاب؟ أيستحق الإنسان أن يُعلق بدلا عنه إنسان آخر؟و هنا الذاكرة لم تخنها بل ضربتها بوابل من الصور . صور لأبيها و صاحب الدكان و المعلم و عشرات من الرجال الذين عبروا فوق خريطة نفسها.صور ليس لها إطار لتعلّق على الحائط أو لتوضع فوق المكاتب.أيستحق كل هؤلاء هذا "العذاب"؟ ملامح والدتها المرتعبة من صوت أبيها أتستحق كل ذلك؟ و هي أتستحق أن يموت عنها أحد؟ .
أصوات ضحك هذا كل ما سمعته. استدارت لتعرف مصدرها فلم تقدر .
راحت الأرضية تدور تحت أقدامها فوقعت أرضا.الدمع يشق طريقه عبر تجاويف خديها .و الضحك يتعالى . سدت آذانها براحتي يديها بقوة و صرخت :" أنجدني الآن لم أعد أستطيع".من سيجيبها ؟ وحده الضحك راح يتعالى و أصبح يتّخذ جسد كل من مرّ و عبَر عبْر مداخلها.لم تكن مدينة مفتوحة بلا أسوار بل كانت مجرّد سائحة حملتها العربات و أدخلتها مدنا مختلفة و أسكنتها معابد لآلهة أخرى.سائحة ، لم ترتدِ ذلك الثوب بإرادتها و لا حملت تلك الحقيبة بقوّتها.لم تعد طفلة حافية القدمين تعدو بين سنابل القمح و لم تعد ذات الضفائر الشقراء المتطايرة مع نسيم البحر . منذ زمن بعيد جدا ألبست تلك الأثواب و عُطّرة بتلك الرائحة .كل من مرّ بقلمه فوق أوراقها كتب اسمه مموّها بكذبة ، وختم بجمر فوق معصميها . هي مكبّلة و مقيّدة و مشوّهة. لم تعد تعرف صورتها الحقيقية .لم تعد تستطيع تمييز ملامحها. و أي مرآة تنظر إليها؟حتى المرايا هشّمت .انها بلا وجود فهي لا تُرى خارج الملاءات و لا تعرف بصمتها خارج الشراشف. قيل لها يوما:"الحياة كظل يدور .عليك أن تستعجل البقاء كي لا يفوتك الظل" .كيف بها ان تستعجل البقاء و هي تفضل الموت على الحياة و تستطعم منذ الآن مذاقه و تستلذ بطعمه . لم تعد الحياة بأشكالها تعنيها و حتى الموجودين فيها لا تجذبها أحاديثهم و لا إعلاناتهم المبوّبة. لو أن الموت يوافيها الآن لركضت لاحتضانه رغم أنها لا تعلم أي مصير لها بعده.سمعت مرّة أن هناك جنة و نار، و أنّ لكل منهما سكانه. هي ليست على يقين أين كانت ستنام الليلة، و هي في هذه الحياة، أو ستعلم من أي سكان ستكون بعد أن يأتي قطار الموت؟.
الضحك نفسه الذي لم تنسه آذانها ، هذا الصوت المتقطع يخترق الجدران الكلسية لهذه الكنيسة و يعيدها منزوية خلف الكرسي الخشبيّ في منزل "والدها " في المنزل الذي كرهته و جعلت تتغذى على حقدها له و لكل من دخله. حقد عشعش في عظامها منذ اللحظة الأولى التي حاول فيها "صديق "العائلة أن يبث أنفاسه في فمها.
كيف لها أن تصدق أن هناك أب يرعاها؟ يحبها؟أين كانت عيناه حين التهمتها عينان موحشة؟ عيناه كانت ملتهبة خمرا . "يرعاني"؟إيه ...وضحكت و حاولت أن تتدارك الضحكة كي لا تلفت الأنظار مع أنه ليس في الكنيسة إلا ذلك الصبيّ. لم تجد ذلك الأب يوما بجانبها إلا فاقدا وعيه ، إمّا سكرا أو غضبا. عيناه الملتهبتان حتى الآن يقلقان مضجعها.و الأم التي لم تر فيها إلا منظرا و انعكاسا لما فقدته منذ أن تزوجت بأبيها و هي في السادسة من عمرها . " الدنيا أم" مجرّد كلام ، هزّت برأسها . كم صفعت بكفها هذه الام حتى تجيد الغناء .طفلة عليها أن تجيد الغناء ،و ليس أي غناء بل الطربيّ منه . صفعت مرارا بالكف التي كان عليها أن تمسح الدمع .و لا يزال صدى الصفع يتردد في تجاويف وجدانها.
لم تعد تستطيع ان تتلقى هذا الوابل من الصور المشوّهة . و لم تعد قادرة على سماع ذلك الضحك. أعادت الصراخ :" أنجدني الآن لم أعد أستطيع".
خيّم صمت و انطفأت وَشْوَشات ذلك الضحك ، و سمعت همسا يقول:" أحبك ، و تستحقين كل قطرة دمع و حبة عذاب فذاك الإنسان تعلّق ليعلّق فيك كل صور و خَرْبشات و يعطيك من وجهه وجها جديدا و من جسده جسد آخر".
" قبل أن تُصوّري أحببتك ، و قبل أن تأخذي نفسك الأول نفخت فيك أنفاسي. جعلتك منذ الأزل حبيبتي ، و أجلستك على ركبتيّ ، و حملتك على منكبيّ .اسمك حفظته شفتاي و كتبته على كفيّ . لا لست وحيدة فأنا عن يمينك كي لا تتزعزعي .تعالي معي يا محبوبتي إلى حديقتي و أقبلي مني هذه الكأس و اشربي من خمرتي فإنني لأجلك عصرتها و لأجلك كسرت جسدي . يا صغيرتي أتيت لأعطيك بيتا عند أبي و لباسا جديدا أبيضا ،لأمنحك حياة فيها كل الحياة .تعالي إلى مائدتي و تذوّقي أطايبي فإنني جعلت لك مكانا على صدري"
و هبّت نسمة، فوقع منديلها على الأرض و رفعت رأسها نحو الصليب ، فوجدت بالقرب منها ذلك الصبيّ الصغير واضعا يده فوق كتفها ، و هو يقول هامسا في أذنها:" ربي يسوع المسيح أنا عبدك الخاطئ خلّصني ".
M.R
لم يبقَ أمامها إلا أن تحمل الحقيبة و تدخل الكنيسة .إنها المرّة الأولى التي تدخل هذه الأبواب . أحسّت بقشعريرة تتغلغل في عروقها و تسري في خلايا جسدها المشوّه. غطت رأسها بمنديل ، و حاولت أيضا أن تشدّ به حول ما تبقّى من ملامح لوجهها .أكان الخجل يضرب بسياطه ؟ و هي التي استطاعت أن ترمي بُرقع جسدها بكل بساطة فوق أي سرير؟.هي عابرة أزقة و أسرّة .
وقفت عند الباب و تساءلت : هل يلاحظني احد؟و راحت تتأمل المسامير المدقوقة في الباب العتيق.شعرت و كأن كل مسمار قد خرق جسدها . أحست بالألم يتدحرج في حلقها . حاولت أن تبصقه فلم تستطع.ألم طعمه مرير ،يجرّ أثقاله ليحط رحاله فوق صدرها ، فيربض جاثما .فهو شبح رافقها منذ اليوم الأول الذي رأت فيه النور.
الأضواء الساطعة بهرت عينيها ، هي لم تعتد هذا الكم الهائل من النور . أحست و كأنها ستفقد بصرها ، هي أبقت تلك العينين اللوزيتين في العتمة ثماني و عشرين سنة، كيف لها أن تنظر هذا النور الآن؟
الضوء! تخاف الضوء و كل أشعته و كل ما يصحبه من صور .النور! لم َ يحاول الآن أن ينبش في ذاكرتها بل ينهش في عظامها ؟.هي لا تريد كل ما يومض و لا تريد ما تركته خلف تلك الأبواب. و الضوء ... يجرّها إلى العمق إلى أبعد ما يمكن أن تتصوّر.
تضع يدها أمام عينيها و تختلس النظر من بين أصابعها . ترى عند الزاوية اليمنى للكنيسة طفلا في العاشرة من عمره راكعا أمام صليب و يتمتم كلمات.
تحاول أن تمعن الإصغاء علّها تحفظ بعضا منها فتردّدها . كم هو صعب أن تخونك الذاكرة و هي الأكثر التصاقا بك، و عالم النسيان يترنح بفخر في الوقت الذي تريده ألا يظهر فيه .
الصلاة هذا كل ما تريده. لا تعلم بما تبدأ و ما نوع الكلام و ما حجمه.و هل للكلام من حجم و شكل؟ و كيف لها أن تتذكر ما لقنتها إياه جدتها و هي بنت الست سنوات؟.لو أنها تستطيع أن تسمع هذه" الكلمات".
تقترب أكثر و بخطى متثاقلة نحو ذلك الطفل . في صدر الكنيسة صليب معلق بحبل ممدود من السقف.يلفتها خشبه . فتقف و تتأمل لونه.خشب معتّق متآكل في بعض أطرافه و في كل الزوايا الأربع مسمار من فولاذ. سألت نفسها لمَ كل هذا العذاب؟ أيستحق الإنسان أن يُعلق بدلا عنه إنسان آخر؟و هنا الذاكرة لم تخنها بل ضربتها بوابل من الصور . صور لأبيها و صاحب الدكان و المعلم و عشرات من الرجال الذين عبروا فوق خريطة نفسها.صور ليس لها إطار لتعلّق على الحائط أو لتوضع فوق المكاتب.أيستحق كل هؤلاء هذا "العذاب"؟ ملامح والدتها المرتعبة من صوت أبيها أتستحق كل ذلك؟ و هي أتستحق أن يموت عنها أحد؟ .
أصوات ضحك هذا كل ما سمعته. استدارت لتعرف مصدرها فلم تقدر .
راحت الأرضية تدور تحت أقدامها فوقعت أرضا.الدمع يشق طريقه عبر تجاويف خديها .و الضحك يتعالى . سدت آذانها براحتي يديها بقوة و صرخت :" أنجدني الآن لم أعد أستطيع".من سيجيبها ؟ وحده الضحك راح يتعالى و أصبح يتّخذ جسد كل من مرّ و عبَر عبْر مداخلها.لم تكن مدينة مفتوحة بلا أسوار بل كانت مجرّد سائحة حملتها العربات و أدخلتها مدنا مختلفة و أسكنتها معابد لآلهة أخرى.سائحة ، لم ترتدِ ذلك الثوب بإرادتها و لا حملت تلك الحقيبة بقوّتها.لم تعد طفلة حافية القدمين تعدو بين سنابل القمح و لم تعد ذات الضفائر الشقراء المتطايرة مع نسيم البحر . منذ زمن بعيد جدا ألبست تلك الأثواب و عُطّرة بتلك الرائحة .كل من مرّ بقلمه فوق أوراقها كتب اسمه مموّها بكذبة ، وختم بجمر فوق معصميها . هي مكبّلة و مقيّدة و مشوّهة. لم تعد تعرف صورتها الحقيقية .لم تعد تستطيع تمييز ملامحها. و أي مرآة تنظر إليها؟حتى المرايا هشّمت .انها بلا وجود فهي لا تُرى خارج الملاءات و لا تعرف بصمتها خارج الشراشف. قيل لها يوما:"الحياة كظل يدور .عليك أن تستعجل البقاء كي لا يفوتك الظل" .كيف بها ان تستعجل البقاء و هي تفضل الموت على الحياة و تستطعم منذ الآن مذاقه و تستلذ بطعمه . لم تعد الحياة بأشكالها تعنيها و حتى الموجودين فيها لا تجذبها أحاديثهم و لا إعلاناتهم المبوّبة. لو أن الموت يوافيها الآن لركضت لاحتضانه رغم أنها لا تعلم أي مصير لها بعده.سمعت مرّة أن هناك جنة و نار، و أنّ لكل منهما سكانه. هي ليست على يقين أين كانت ستنام الليلة، و هي في هذه الحياة، أو ستعلم من أي سكان ستكون بعد أن يأتي قطار الموت؟.
الضحك نفسه الذي لم تنسه آذانها ، هذا الصوت المتقطع يخترق الجدران الكلسية لهذه الكنيسة و يعيدها منزوية خلف الكرسي الخشبيّ في منزل "والدها " في المنزل الذي كرهته و جعلت تتغذى على حقدها له و لكل من دخله. حقد عشعش في عظامها منذ اللحظة الأولى التي حاول فيها "صديق "العائلة أن يبث أنفاسه في فمها.
كيف لها أن تصدق أن هناك أب يرعاها؟ يحبها؟أين كانت عيناه حين التهمتها عينان موحشة؟ عيناه كانت ملتهبة خمرا . "يرعاني"؟إيه ...وضحكت و حاولت أن تتدارك الضحكة كي لا تلفت الأنظار مع أنه ليس في الكنيسة إلا ذلك الصبيّ. لم تجد ذلك الأب يوما بجانبها إلا فاقدا وعيه ، إمّا سكرا أو غضبا. عيناه الملتهبتان حتى الآن يقلقان مضجعها.و الأم التي لم تر فيها إلا منظرا و انعكاسا لما فقدته منذ أن تزوجت بأبيها و هي في السادسة من عمرها . " الدنيا أم" مجرّد كلام ، هزّت برأسها . كم صفعت بكفها هذه الام حتى تجيد الغناء .طفلة عليها أن تجيد الغناء ،و ليس أي غناء بل الطربيّ منه . صفعت مرارا بالكف التي كان عليها أن تمسح الدمع .و لا يزال صدى الصفع يتردد في تجاويف وجدانها.
لم تعد تستطيع ان تتلقى هذا الوابل من الصور المشوّهة . و لم تعد قادرة على سماع ذلك الضحك. أعادت الصراخ :" أنجدني الآن لم أعد أستطيع".
خيّم صمت و انطفأت وَشْوَشات ذلك الضحك ، و سمعت همسا يقول:" أحبك ، و تستحقين كل قطرة دمع و حبة عذاب فذاك الإنسان تعلّق ليعلّق فيك كل صور و خَرْبشات و يعطيك من وجهه وجها جديدا و من جسده جسد آخر".
" قبل أن تُصوّري أحببتك ، و قبل أن تأخذي نفسك الأول نفخت فيك أنفاسي. جعلتك منذ الأزل حبيبتي ، و أجلستك على ركبتيّ ، و حملتك على منكبيّ .اسمك حفظته شفتاي و كتبته على كفيّ . لا لست وحيدة فأنا عن يمينك كي لا تتزعزعي .تعالي معي يا محبوبتي إلى حديقتي و أقبلي مني هذه الكأس و اشربي من خمرتي فإنني لأجلك عصرتها و لأجلك كسرت جسدي . يا صغيرتي أتيت لأعطيك بيتا عند أبي و لباسا جديدا أبيضا ،لأمنحك حياة فيها كل الحياة .تعالي إلى مائدتي و تذوّقي أطايبي فإنني جعلت لك مكانا على صدري"
و هبّت نسمة، فوقع منديلها على الأرض و رفعت رأسها نحو الصليب ، فوجدت بالقرب منها ذلك الصبيّ الصغير واضعا يده فوق كتفها ، و هو يقول هامسا في أذنها:" ربي يسوع المسيح أنا عبدك الخاطئ خلّصني ".
M.R