إن التكلم بألسنة هو موهبة من مواهب الروح القدس التي أعطيت للرسل بانسكاب الروح القدس عليهم يوم الخمسين في العلية، وتكلموا بلغات البشر، كما سجل سفر أعمال الرسل في قوله:
"ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة ... وإمتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.
وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم. فلما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته. فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض أتُرى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين، فكيف نسمع نحن كل واحد لغته التي ولد فيها: فرتيون ومادييون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين واليهود وكبدوكية وبتس وآسيا وفيريجية وبمقيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء كريتيون وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله" (أع1:2ـ11)
فمن ذلك يتضح أن الرسل نطقوا بلغات بشرية متعددة، كما شهد الذين سمعوا الفرتيون والماديون والعلاميون والمصريون والرومانيون والعرب وغيرهم.
والملاحظ أن موهبة التكلم بألسنة أعطيت لأشخاص لم يكن لهم علم سابق باللغات التي نطقوا بها، وهذا هو ما حير السامعين إذ قالوا بعضهم لبعض: "أتُرى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين! فكيف نسمع نحن كل واحد لغته التي ولد فيها؟" (أع7:2ـ8).
ورب معترض يقول إن ما حدث يوم الخمسين لا جدال عليه، إذ هو نطق بلغات الناس، ولكن هناك نوع آخر من التكلم بألسنة، وقد ذكره بولس الرسول جنباً إلى جنب مع ألسنة الناس في قوله: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ..." (1كو1:13)، فالألسنة التي للناس تستخدم في الكرازة، والتي للملائكة تستخدم في الصلاة.
إن هذا ما سوف نوضحه بالتفاصيل فيما يلي:
حقيقة ألسنة الناس والملائكة
هل يوجد نوعان من التكلم بألسنة؟
أم أنها موهبة واحدة لها استخدامان:
الواقع إن بولس الرسول في تعبيره "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ..." (1كو1:13) ما كان يشير إلى نوعين من التكلم بألسنة، ونوع خاص بالملائكة، يُعطيان للبشر كموهبة من الروح القدس، وكأن ألسنة الناس تستخدم للكرازة، والتي للملائكة تستخدم للصلاة، إنما الحقيقة هي أن موهبة التكلم بالألسنة التي تعطى للناس هي نوع واحد ذات استخدامين، فهي إمكانية التكلم بلغات البشر المتنوعة سواءً أستخدمت للكرازة، أو في الصلاة. ونورد الأدلة العديدة التي تؤكد ذلك:
أولاً:- إن ما حدث يوم الخمسين للرسل في العلية انتظاراً لتحقيق موعد الآب بحلول الروح القدس عليهم كقول الرب إذ: "أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب" (أع4:1) هو أنهم إمتلأوا بالروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع1:2ـ4).
والملاحظ هنا هو أن الرسل عندما كانوا مجتمعين في العلية بنفس واحدة (أع1:2) وتكلموا بالألسنة لم يكن معهم أحد من الجمهور، أي أن هذه الألسنة في بداية التكلم بها لم تستخدم لكرازة أحد، إلى أن اجتمع الشعب الذي كان خارج العلية، وبعد ذلك "لما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته" (أع6:2).
نفهم من ذلك أن الألسنة التي نطقوا بها وهم بمفردهم كجماعة مؤمنين، هي نفسها التي سمعها الجمهور كل بلغته. أي أن الألسنة التي نطقوا بها في عبادتهم المنفردة، هي نفسها التي كُرز بها للشعوب التي كانت مجتمعة.
من ذلك يتضح أن الكلام بألسنة هي موهبة من نوع واحد، وهي النطق بلغات البشر، ولكن لها استخدامين، فقد استخدمت في الصلاة، واستخدمت كذلك في الكرازة بحسب قصد الروح القدس.
ثانياً:- يقول القمص زكريا بطرس في كتاب التكلم بالسنة في المفهوم الأرثوذكسي إن الكتاب المقدس لم يقل: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس، وألسنة الملائكة" فهذه العبارة خطأ، ولكنه قال: "بألسنة الناس والملائكة" (1كو1:13) فكلمة "ألسنة" هنا التي ذكرت بصيغة الجمع، إنما هي اللغات العديدة التي يتكلم بها الناس، مضافاً إليها "لسان الملائكة" وليس "ألسنة الملائكة". لأنه لو كان للملائكة ألسنة متعددة لاحتاجوا أن يترجم بعضهم لبعض، ولما كانت بينهم وحدة في الفكر، وحاشا أن يكون الملائكة كذلك.
كما أن تعدد الألسنة وانقسامها إلى لغات متعددة لم يحدث إلاَ للبشر فقط عندما أخطأوا ببناء برج بابل، فبلبل الله هناك ألسنتهم إذ يقول الكتاب "وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة ... وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم ... هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ... لذلك دعي إسمها بابل، لأن الرب بلبل لسان كل الأرض" (تك1:11ـ9). أما بالنسبة للملائكة فالأمر ليس كذلك، ولم يحدث أن بلبل الله لسانهم، إذن فلغتهم واحدة ولسانهم واحد.
ولو كانت موهبة الألسنة التي تعطى في الصلاة يقصد بها لسان الملائكة، ما كان بولس الرسول يشير إليها بصيغة الجمع "التكلم بألسنة" كما يتضح من الأمثلة التالية:
"لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة (وليس بلسان)" (1كو5:14).
"أشكر إلهي أني أتكلم بألسنة (وليس بلسان) أكثر من جميعكم"(1كو18:14).
"وقولـه: "إذا الألسنة ـ وليس اللسان ـ آية لا للمـؤمنين بل لغير المؤمنين" (1كو22:14).
وأيضاً: "فإن اجتمعت الكنيسة كلها في مكان واحد وكان الجميع يتكلمون بألسنة ـ وليس بلسان ـ فدخل عاميون أو غير مؤمنين أفلا يقولون أنكم تهذون" (1كو23:14).
فمن هذا يتضح أن موهبة التكلم بألسنة في الصلاة لا يقصد بها لسان الملائكة.
وعلاوة على ذلك فإن لغة الملائكة أي أسلوب التفاهم بينهم، هي بلا شك لغة مفهومة لها قواعدها ومعانيها، وليست مجرد أصوات مرتبكة ورطانة بلا معنى، الأمر الذي أشار إليه بولس الرسول بقـوله: "هكذا أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يفهم فكيف يعرف ما تكلم به، فإنكم تكونون تتكلمون في الهواء. ربما تكون أنواع لغات هذا عددها في العالم وليس شي منها بلا معنى" (1كو9:14ـ10).
كما أن الملائكة أرواح، والتفاهم بين هذه الأرواح يعلو على مرتبة الحس والصوت المسموع بالأذن الحسية، فلغتهم لغة خاصة بهم كأرواح غير مادية، فكيف للبشر إذن أن يتكلموا بهذه اللغة الملائكية. (على أن الملائكة إذا كلموا البشر، كمرسلين من الله برسالة إلى أحد من الناس، فإنهم يتكلمون بلغة البشر).
ثالثاً:- وثمة دليل آخر على أن التكلم بألسنة هي نوع واحد، أن معلمنا بولس الرسول لم يفرق بين الألسنة، بل نراه يتكلم عن ألسنة الصلاة على أنها هي نفسها للكرازة والتعليم كما يتضح مما يلي:
"فالآن أيها الأخوة إن جئت إليكم متكلماً بألسنة فماذا أنفعكم إن لم أكلمكم إما بإعلان أو بعلم أو بنبوة أو بتعليم هكذا .. أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يُفهم فكيف يعرف ما تُكلم به، فإنكم تكونون تتكلمون في الهواء" (1كو6:14ـ9).
فمن هنا يتضح أن موهبة الألسنة يعطى بها كلام يُفهم.
وقـوله:"ربما تكون أنواع لغات هذا عددها في العالم وليس شئ منها بلا معنى فإن كنت لا أعرف قوة اللغة أكون عند المتكلم أعجمياً والمتكلم أعجمياً عندي ... لذلك من يتكلم بلسان فليصلِ لكي يترجم" (1كو10:14ـ13).
من هذا يتضح بكل جلاء أنه يربط بين التكلم باللغات وبين ألسنة الصلاة على أنها موهبة واحدة لها استخدامان حسب احتياج الكنيسة.
رابعاً:- إن استخدام معلمنا بولس الرسول للتغير "ألسنة الناس والملائكة" في قوله إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة" (1كو1:13) إنما هو للتعبير عن شئ مستحيل، أو أقصى ما يمكن أن يصل إليه، مثال قوله:
"إن سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً" (1كو3:13) ومن الثابت أن معلمنا بولس الرسول لم يحترق جسده، وإنما استخدم هذا التعبير ليوضح أنه مهما كان له من مواهب، أو مهما بذل من عطاء، ولم تكن له محبة فلا فائدة. ومثال آخر هو قوله: "فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو9:3)، وقد استخدم هنا أداة "لو" في قـوله "لو أكون ..." ومعروف أن هذه الأداة تفيد امتناع حدوث جواب الشرط لامتناع حدوث فعل الشرط. والواقع أن قول بولس الرسول بصدد التكلم بألسنة: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة" (1كو1:13) هو في الأصل اليوناني يستخدم أداة "لو" أي "لو كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة"
وهذا يوضح أن الكلام هو من قبيل الافتراض والإمتناع لا الواقع الممكن حدوثه
خامساً:- ومما يؤكد أنه لا يوجد نوعان من التكلم بألسنة، وأنه لا يوجد في موهبة التكلم بألسنة ما يسمونه بألسنة الملائكة، أنه لم ترد أية إشارة أخرى في الكتاب المقدس تؤيد هذا القول. ولا يمكن أن تؤسس عقيدة إيمانية على مجرد تلميح في معرض حديث إفتراضي غرضه بيان الحد الأقصى، ولا تسنده أدلة أخري، بل على العكس تقوم ضده أدلة دامغة صريحة.
مما تقدم يتأكد لنا أن موهبة التكلم بألسنة هي النطق بلغات البشر سواء كانت للكرازة أو الصلاة ونورد في الختام قولاً للقديس يوحنا ذهبي الفم يحسم هذا الموضوع مؤكداً أن ألسنة الصلاة هي لغات من لغات البشر المعروفة إذ قال: أرأبت كيف يصل الرسول بالتدريج إلي نقطة حاسمة في حديث عن التكلم بألسنة؟! فيوضح أنها بلا فائدة ليس للسامعين فقط بل أيضاً للمتكلم بها في قوله: "أما ذهني فهو بلا ثمر" (1كو14:14).
لأنه إن نطق إنسان بالفارسية أو بأي لغة أجنبية ولم يُفهم ما يقوله فهو بالتأكيد سوف يكون بربرياً عند نفسه، وليس عند الآخرين فقط إذ أنه لا يعرف ما تكلم به.
و يقول الاب بيشوي في كتاب موهبة التكلم بألسنة فكثيرون في القديم ممن كانت لهم موهبة الصلاة مع موهبة التكلم بألسنة، بينما كانوا يصلون كانوا يتكلمون بألسنة. فكانوا يصلون بالفارسية أو باللاتينية، ولكنهم ما كانوا يفهمون ما يصلون به: فلهذا قال الرسول: "إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي وأما ذهني فهو بلا ثمر.
ويلاحظ أن الرسول إنتقد هذا الموضوع الأخير، ولم يره مقبولاً روحياً.
ومما يجدر ملاحظته هو أن هذا الرأي قد ورد أثناء تفسر يوحنا ذهبي الفم لرسالة بولس الرسول الأولي إلى أهل كورنثوس، لا بهدف الرد على بدع أو هرطقات بل في سياق حديث عادى يكشف عن أنه رأي مستقر في الكنيسة وليس من يعارضه.
كما أنه من المؤكد تاريخياً أن هذا هو رأي جميع قديسي الكنيسة.
ويعلق ناشرو مجموعة أقوال الآباء على قول القديس يوحنا ذهبي الفم السالف الذكر بقولهم:
بناء على كل ما سبق إيضاحه، فإنه من المتيقن أن التكلم بألسنة ليس نوعين بل نوع واحد له استخدامان، وهو يتكلم بلغات البشر، سواء كان ذلك للكرازة أو في الصلاة، وأن التكلم بألسنة في الصلاة في الزمن الرسولي ليس هو رطانة وبلبلة بكلام غير مفهوم وأصوات بلا معنى، بل بلغات حقيقية من لغات البشر.